الهجرة من مكة إلى المدينة قد انقضَت بفتح مكة، ونال شرَفها السابقون الأولون من الرجال والنساء والشِّيب والشباب، وقد أكَّد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة» متفق عليه.
أما الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، فهي باقية إلى قيام الساعة، والهجرة هجرتان:
الأولى: هجرة معنوية (قلبية)، وهي الأشرف، وذلك بالانتقال من الكفر إلى الإسلام، ومن النفاق إلى الإيمان، ومن الرذائل إلى الفضائل، ومن المساوئ إلى المحاسن، ومن الفشل إلى النجاح.
الثانية: هجرة حِسيَّة من مكان إلى مكان، ومنها الهجرة من مكة إلى المدينة، ومن دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن مجالس الشر إلى مجالس الخير ونحوها، وكلا النوعين باقٍ إلى قيام الساعة.
إذًا؛ استفادة الأمة من ذكرى الهجرة تتمثَّل في التفاعل الإيجابي مع هذا الحدث التاريخي الكبير، وليس مجرد احتفالات أو مهرجانات تُقام هنا وهناك.
ويتجلَّى ذلك في الصور العملية التالية:
أولًا: هجْر المعاصي والذنوب التي أوهَنت الأمة، وبدَّدت قواها، وهزَّت كِيانها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخبركم مَن المسلم؟ مَن سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن: مَن أَمِنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر: مَن هجَر الخطايا والذنوب، والمجاهد: مَن جاهَد نفسه في طاعة الله عز وجل» مسند أحمد.
ومن صور ذلك:
1- هجْر الشِّرك بالله وعبادة الأولياء والصالحين وغيرهم، إلى عبادة الله عز وجل الواحد القهَّار؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].
وقد قال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
2- هجْر مُوالاة أعداء الله والتذلُّل لهم ومُداهنتهم، إلى مُوالاة أهل الإيمان وحبهم والترفُّق بهم؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
وليكن شعار المسلم:
أهْفو إلى جنةِ الفردوس مُحترقًا *** بنار شوقي إلى الأفياء والغُرَفِ
وقد أَمُرُّ على الدنيا وَسادَتها *** من الطُّغاة مُرورَ اللَّيث بالجِيَفِ
3- هجْر الغناء والمعازف وعبادة الهوى، إلى تلاوة القرآن والسنة المُطهرة، واتِّباع الهدى؛ لقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40- 41].
وصدق الشاعر بقوله:
سَهري لتَنقيح العلوم ألذُّ لي *** من وصْل غانيةٍ وطِيب عِناقِ
وصَريرُ أقلامي على صفحاتِها *** أحلَى من الدَّوكاء للعُشَّاقِ
وألذُّ من نَقْر الفتاة لدُفِّها *** نَقْري لأُلقي الرَّمل عن أوراقي
وتَمايُلي طرَبًا لحَلِّ عَويصةٍ *** في الدَّرس أشهى من مُدامة ساقِ
يا مَن يُحاول بالأَماني رُتبتي *** كَمْ بين مُستفلٍ وآخر راقي
أأَبيتُ سَهرانَ الدُّجى وتَبيتَه *** نومًا وتَبغي بعد ذاك لِحاقي
4- هجْر التبرُّج والسفور وتقليد الكافرات، إلى العِفة والحجاب والاقتداء بأُمَّهات المؤمنين؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59].
وصدق الشاعر حين قال:
أُختاه يا بنتَ الإسلام تحشَّمي *** لا تَرفعي عنكِ الخِمارَ فتَندمي
صُوني جمالَكِ إن أردتِ كرامةً *** كيلا يَصولَ عليكِ أدْنى ضَيْغَمِ
لا تُعْرضي عن هَدْي ربِّكِ ساعةً *** عَضِّي عليه مدى الحياة لتَغنَمي
ما كان ربُّكِ جائرًا في شرْعهِ *** فاسْتَمسِكي بعُراهُ حتَّى تَسْلَمي
ودَعي هُرَاءَ القائلين سَفاهةً: *** إن التقدُّم في السفور الأَعْجمي
إيَّاكِ إيَّاكِ الخداعَ بقولهمْ: *** سَمراءُ يا ذاتَ الجمال تقدَّمي
إن الذين تبرَّؤوا عن دينهمْ *** فهمُ يَبيعون العَفاف بدِرْهَمِ
حُلَلُ التبرُّج- إن أردْتِ- رَخيصة *** أمَّا العَفاف فدُونَهُ سَفْك الدمِ
حَسناءُ يا ذاتَ الدَّلال فإنني *** أخشَى عليكِ منَ الخَبيث المُجرمِ
لا تَعرضي هذا الجمال على الوَرى *** إلا لزوجٍ أو قريبٍ مَحْرَمِ
لا تُرسلي الشَّعر الحرير مُرَجَّلًا *** فالناس حولكِ كالذِّئاب الحُوَّمِ
لا تَمنحي المستشرقين تبسُّمًا *** إلا ابتسامةَ كاشرٍ مُتجَهِّمِ
أنا لا أُحبِّذ أن أراكِ طليقةً *** شرقًا وغربًا في الجنوب ومَشْأَمي
أنا لا أُريد بأن أراكِ جَهولةً *** إنَّ الجهالة مُرَّة كالعَلْقَمِ
فتعلَّمي وتثقَّفي وتنوَّري *** والحقُّ يا أُختاه أن تتعلَّمي
لكنَّني أُمسي وأُصبح قائلًا: *** أُختاه يا بنتَ الإسلام تحشَّمي
5- هجْر التشبُّه بالكفار وسُفهائهم، إلى التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم العظيم وأصحابه العُظماء؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
ومَن تشبَّه بقوم، فهو منهم.
وصدق مَن قال في رسولنا الكريم:
وأجملُ منْكَ لَم ترَ قطُّ عينٌ *** وأفضلُ منك لَم تَلِد النساءُ
خُلِقت مُبرًّا من كلِّ عيبٍ *** كأنَّك قد خُلِقت كما تشاءُ
6- هجْر أكْل الربا المحرَّم والمعاونة عليه، إلى البيع المُباح والربح الحلال؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 275- 276]، وفي الحلال ما يُغني عن الحرام.
7- هجْر الزنا والفواحش والشهوات المحرَّمة، إلى الزواج والعِفَّة والشهوات المباحة؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27].
وصدق مَن قال:
نونُ الهوانِ من الهوى مَحذوفة *** وصَريعُ كلِّ هوًى صريعُ هوانِ
8- هجْر الخمور والمُسكرات الضارَّة، إلى المشروبات الطيِّبة والمطعومات النافعة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90- 91].
لأنه:
يقول جَبانُ القوم في حال سُكرهِ *** وقد شرِب الصَّهباءَ: هل من مُبارزِ؟
ففي السُّكر عمرو وابن مَعدي وعامرٌ *** وفي الصَّحو تَلقاه كبعض العجائزِ
9- هجْر السَّرقة والاختلاس وأكْل المال بالباطل، إلى الكسْب الحلال والأمانة، وأداء الحقوق إلى أصحابها؛ لقوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1- 6].
فالمال فتنة وقد صدق القائل عن الدرهم:
تبًّا له من خادعٍ مُماذقِ *** أصفرَ ذي وجهين كالمُنافقِ
يَبدو بوصفين لعينِ الرامق *** زِينةِ مَعشوقٍ ولون عاشقِ
وحبُّه عند ذَوِي الحقائق *** يدعو إلى ارتكاب سُخْطِ الخالق
لولاه لَم تُقطَع يمينُ سارق *** ولا بدَت مَظلمةٌ من فاسقِ
ولا اشْمَأزَّ باخلٌ من طارقِ *** ولا شكا الممطولُ مَطْلَ العائقِ
ولا اسْتُعِيذ من حسودٍ راشقِ *** وشرُّ ما فيه من الخلائقِ
أن ليس يُغني عنك في المضايق *** إلاَّ إذا فرَّ فرارَ الآبِقِ
واهًا لِمَن يَقذِفه من حالقِ *** ومَن إذا ناجاه نجوى الوامقِ
قال له قول المُحقِّ الصادقِ *** لا رأْيَ في وصْلك لي ففَارِقِ
10- هجْر الصمت عن المنكرات وإقرار السيِّئات، إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
والساكت عن الحق شيطان أخرس.
11- هجْر الهزيمة النفسية وضَعف اليقين، إلى العزة الإيمانية والثقة بنصْر الله؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، ولقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171- 173].
وصدق القائل:
النورُ في قلبي وبين جَوانِحي *** فعلامَ أخشى السَّير في الظَّلماءِ
من جاشَ بالوحي المُقدَّس قلبُهُ *** لم يَحتفل بفَداحة الأعْباءِ
وصدق الآخر حين قال:
سأعيش مُعتصمًا بحبلِ عقيدتي *** وأموت مُبتسمًا ليَحيا ديني
النور في قلبي وقلبي في يدي *** ربي وربي ناصري ومُعيني
ثانيًا: هجْر أماكن الفتن ومواقع الفساد:
وهذا من صميم معنى الهجرة الحِسية، وقد قُرِن مع الإيمان والجهاد؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].
ومن صُور ذلك:
1- هجْر ديار الكفر؛ حيث الذِّلة والإهانة، إلى ديار الإسلام؛ حيث العزة والكرامة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 97- 100].
ولا يُقيم على ذُلٍّ يُراد به *** إلاَّ الأذَلاَّن: عِيرُ الحي والوَتِدُ
هذا على الذُّل مَربوطٌ برُمَّته *** وهذا يُدَقُّ فلا يَرثي له أحدُ
2- هجْر أماكن المعاصي والفتن والتعاون على الإثم والعدوان، إلى أماكن الطاعات والخير والتعاون على البر والتقوى؛ لقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].
وقد تكون هذه المواقع مواقعَ جغرافية؛ مثل المدارس السيِّئة، والجامعات المشبوهة، والأحياء الفاسدة، والمؤسسات المتساهلة، ودُور السينما والمسارح، والمنتزهات الهدَّامة، أو مواقع إلكترونية؛ مثل: المواقع الإباحية، ومواقع الإساءة إلى الإسلام وإلى رسول الإسلام، ومواقع الشُّبهات؛ مثل: مواقع الرافضة وغيرها، وكلها حقُّها أن تُهجَر، وكل ذلك يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «والمهاجر: مَن هجَر ما نهى الله عنه».
ومَن ترَك شيئًا لله، عوَّضه الله خيرًا منه.
ثالثًا: هجْر الشخصيات السيِّئة والعناصر الهدَّامة:
ويتمثل ذلك في هجْر قُرناء السوء وجُلساء الشر- من الكفار والمنافقين، والدَّجالين المُشعوذين، والمُرابين والنمَّامين وغيرهم- إلى الأفراد الصالحين الطائعين الذاكرين، الأتقياء الأنقياء الأخفياء؛ لقوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
وصدق الشاعر حين قال:
فارِقْ تَجِدْ عِوَضًا عمَّن تُفارقهُ *** وانْصَب فإنَّ لذيذَ العيش في النَّصَبِ
إني وجَدت وقوف الماء يُفسدهُ *** إن سال طابَ وإن لم يَجرِ لم يَطِبِ
والأُسْد لولا فِراقُ الأرض ما افترَسَتْ *** والسَّهم لولا فراقُ القوس لم يَصِبِ
والتِّبرُ كالتُرب مُلقًى في مَعادنهِ *** والعودُ في أرضه نوعٌ من الحَطَبِ
والشمسُ لو وقَفت في الفُلك دائبةً *** لَمَلَّها الناس من عُجْمٍ ومن عرَبِ
رابعًا: إعادة تأريخ الأحداث بالتاريخ الهجري:
فهو أحد معالم الدولة المسلمة المعتزة بتاريخها، المستعلية بإيمانها، المتمسكة برسالتها، بدلًا من التاريخ الغربي القائم على الميلاد المزعوم للمسيح عيسى- عليه السلام- وهو من علامات التبعيَّة وضَعف الهُويَّة.
حيث صدق في الأمة قول الشاعر:
إن اتَّجهتَ إلى الإسلام في بلدٍ *** تَجِدْه كالطَّير مقصوصًا جناحاهُ
وَيْحَ العروبةِ كان الكون مَسرحَها *** فأصبَحت تتوارَى في زواياهُ
كمْ صرَّفتنا يدٌ كنَّا نُصرِّفها *** وباتَ يَملِكنا شعبٌ ملَكناهُ
والله عز وجل يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].
والعودة لتاريخ الهجرة دور حُكام المسلمين أولًا؛ لأن الأمور بأيديهم، وهم الذين يضعون السياسيات العامة والقوانين المُسيِّرة لأمور البلاد، والله سائلهم عن ذلك، فكلُّهم (مسئول عن رعيَّته).
وعلى الأفراد نشْر هذا التاريخ المبارك كلٌّ بقدر طاقته؛ المعلمون في مدارسهم وهم يكتبون تاريخ دروسهم على اللوحات، وأولياء الأمور في بيوتهم مع أولادهم وأزواجهم، والدُّعاة في منابرهم وأحاديثهم؛ حتى نُسهم في إعادة الأمة لمجْدها الغابر وعزِّها الغائر الذي بكاه الشاعر.
بقوله:
كنَّا أساتذةَ الدنيا وسادتَها *** والغربُ يَخضع إن قُمنا نُناديهِ
كانت أوربَّا ظلامًا ضلَّ سالكُهُ *** وشمسُ أندلسٍ بالعلم تَهدِيهِ
واليومَ تُقْنا لمجدٍ فرَّ من يدِنا *** فهل يعود لنا ماضٍ نُناجيهِ
و{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].
والله المستعان.
الكاتب: عادل عبدالوهاب عبدالماجد.
المصدر: موقع الألوكة.